فى ظهيرة يوم ماطر عام 1986 بينما كنت عائد من مدرسة عاشور العبد الاعدادادية التى كنت أعمل به كمدرس علوم .و أنا أعبر شارع المعهد الدينى نادنى زميل كان جالس فى ورشة أخيه و قال لى مش عاوز تسافر ليبيا قلت له موافق .فقد كنت أتقاضى مرتب 59 جنيه و ثمانون قرش و هو مبلغ زهيد و لذلك كنت دائم القيام بجولات مكوكية على السفارات العربية و الأجنبية محاولا الحصول على عقد عمل أو فيزا و لكن دون جدوى.و طلب منى الزميل صورة للمؤهل فأعطيتها له و ذكرت القصة لمعلم آخر صديق لى فطلب منى أني أعرفه غلى زميلى الذى أخذ الشهدة و أعطاه شهادته و بعد عشرة أشهر .وصلت عقود العمل و المبدئية و لكى يتم التعاقد يجب السفر إلى ليبيا و عمل مقابلة شخصية و اختبار فى مادة التخصص .وعند النجاح استلام العمل. و لكن العلاقات بين مصر و ليبيا فى تلك الفترة مقطوعة و لا توجد وسيلة سفر مباشرة .و أجازات المعلمين ممنوعة و غير مسموح باستخراج شهادة خبرة. و لا تصريح سفر و لا تصريح عمل .و مشكلة وسيلة السفر كانت السفر جوا لمالطا و منه إلى ليبيا .و تم حل مشكلة تصريح العمل و تم السفر .و عند الوصول لمطار طرابلس شممت فى الهواء رائحة النفط .و قضيت ليلة فى أحد الفنادق 4 نجوم بطرابلس بعد مجهود فى البحث حيث كانت معظم الفنادق مشغولة .و ذلك بعد تصريف مبلغ 50 دولار و تحويلة لدينارات من خلال أحد العاملين فى الفندق (سوق سوده ) وفى صباح اليوم الثانى توجهت لمكان عمل المقابلة ليستقبلنا مسئول ليبى متغطرس يسمى محمد جمعة و بعد ذلك أجريت المقابلة الشخصية و الاختبار و ذهبت بالنتيجة لمحمد جمعة فقال لى سوف تعمل فى بلدية النقاط الخمس و هى محافظة ساحلية فى أقى الغرب على حدود تونس و ذهبت لموقف السيارات الأجرة و الأجرة غير ثابته و تخضع للمساومة و عندما يعرف السائق أنك مصرى يغالى فى السعر المهم وصلت للمدرسة .و كانت مدرسة ثانوية للعلوم الأساسية فى قرية صغيرة بعيدة عن الساحل تسمى بدر أهلها جميعا من قبيلة واحدة تسمى قبيلة الصيعان.وعندم سألت أين مكتب المدير و ذهبت فوجد عدد من الليبين بزيهم الوطنى التقليدى يفترشون الأرض رغم وجود كراسى فاخرة و مكتب فاخر يجلس أحدهم على المكتب فظننت أنه المدير و لكنه كان العامل فقلت له أين المدير قال "هذا المجمعز غادى يدير الشاهى " أى القاعد هناك بيعمل الشاى و كان اسمه مصباح المصدى فأحرجت أن أقول له أنت مصيح المصدى فقلت له أنت مصباح المصرى ؟ فقال لى لا المصدى و ليس المصرى قدمت له أوراقى فقال باهى جعمز اشرب طاسة شاى. وهكذا استلمت العمل و دخلت الفصول لأجد طلاب و طالبات يرتدون جميعا زىاً عسكرياً معظمهم متعثر حتى فى القراءة و الكتابة.و فى النهاية استقر الأمر على اعطاءهم 20 سؤال و جواب سوف أضع المتحان منهم.ثم تم تخفيض عدد الأسلة لعشرة أسئلة فقط.و كان سكنى فى شقة ملحقة بالمدرسة التى تيعد عن البلدة حوالى خمسة كيلومترا. و بعد انتهاء دراسة يوم الخميس أظل فى حالة صمت حتى صبيحة يوم السيت حيث أنى كنت أول مدرس مصرى يصل لتلك المدرسة و أقيم بمفردى فى تلك الشقة المكونة من غرفتين وصالة و حمام و مطبخ لكن الحنفيات ليس بها ماء. و لم يكن لدى سوى راديو ترانزستور صعير يعمل بالبطارية. و صورة لوحة اسمها مايا أعجبتنى من مجلة العربى للرسام الأسبانى فرانسيسكو جويا. لصقتها على الحائط بجوار السرير.
و الراديو كنت أسمع فيه برامج الاذاعة الليبية و خاصة محاضرات القائد (خطابات القذافى) .و من خلالها فهمت التوجهات العامة و قد ساعدنى ذلك كثيرا فى اجتياز اختبارات أمنية كثيرة عندما بأتى إليك مدرس أو موجه أو مشئول ليبى و يفتح معك حوار لمعرفة اتجاهاتك .فقد كنت استخدم معهم استراتيجية تعلمتها و أنا تلميذ فى الصف الخامس الابتدائى لا يحب مادة المواد الاجتماعية و هى التاريخ و الجغرفيا و التربية و الوطنية و كان الحل أن عرفت أن إجابة أى سؤال ماهى إلا سب الملك و النظام الملكى و لعن الانجليز و الفرنسيين و الرأسمالية .و الاشادة بثورة يوليو الاشتراكية و تمجيد زعيمها الأوحد جمال عبد الناصر, و الأمر مشابه فى ليبيا عليك تمجيد القذافى و عبد الناصر و إظهار عدم الرضا عن السادات و مبارك , و لعن أمريكا و الغرب. و بذلك تكون التقارير عنك إيجابية و تنال الثقة.و فى بداية تواجدى فى المدرسة مع الليبين كنت أسمع كثيرا و أتكلم قليلا و أدرس ردود أفعالهم و كانوا يتحدثون بلهجتهم .و يظنون أنى لا أفهم ما يقولون .و قد كان هذا جيدا فهم بذلك يتكلمون بصراحة . و فى أحد الأيام فاجئتهم بالتحدث معهم بلهجتهم فاندهشوا و قالوا انت كنت فاهم اللى بنقوله .و فى بداية الشتاء فى العام الثانى و صل للمدرسة أربعة مدرسين مصريين .و فى ذات مساء أحضر المدير أربع بطانيات و نحن خمس مدرسين فبدأ الصراع بين المدرسيين المصريين و لم أشترك فيه فنظر لى المدير و قال لى ما أخدتش بطانية ليه.فإبتسمت فضحك المدير و قال لى على فكرة انت مش مصرى. و عندما كنت أريد شراء شئ من البلدة أصحو مبكرة أمشى الكيلومترات الخمسه فإنا أحب المشى و جو الصحراء جميل و نقى و فى منتصف الطريق يقف لى ليبى بسيارته و يقول إركب يا شيخ (المعلم يقول له شيخ حتى لو مسيحى ) ما تحشمناش (يعنى متكسفناش ) فى حين أن بعض الزملاء كانوا يقفون و يشيرو بأيديهم للسيارات فينظر الليبى للجهة الأخرى و لا يقف لهم .
وعملت لمدة ثلاث سنوات يتخللهم أجازتين صيفيتين قضيت الأجازة الأولى فى مالطا لتحويل فلوسى لمصر .أما الثانية نزلت المحروسة و تعثرت فى العودة و ظل ميدر المدرسة يوقع لى حضور و انصراف لمدة ثلاث شهور على أمل العودة و لكن دون جدوى و سرت إشاعة فى القرية أنى ذهبت للعراق للحرب ضد الغزو الأمريكى لها .
تعليقات
إرسال تعليق